الصدقة اليومية

الصدقة اليومية


لا شيء ألذ في الدنيا بعد الإيمان ولوازمه من إسداء الخير للناس، وعون المحتاجين، وإطعام الجائعين، والتنفيس عن المكروبين، يجد لذة ذلك المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وكأن هذه اللذة التي يجدها فاعل الخير؛ جزاء معجل للمؤمن على إحسانه، مع ما ادخر له من عظيم الجزاء في الآخرة، وهي من حسنات الدنيا المعجلة للكافر؛ حتى لا يكون له عند الله تعالى حسنة يوم القيامة.

وإن من أعظم الأعمال التي يلقى الإنسان أثرها في حياته وبعد مماته، هي: الصدقة اليومية.


تُستعمل كلمة «الصدقة» ومشتقاتها في نصوص الكتاب والسنة بمعانٍ أربعة وهي كالآتي:

 ـ تُستعمل بمعنى الصدقات الواجبة المحددة المقدار، وهي التي سميت بزكاة الأموال.

2 ـ تُستعمل بمعنى إنفاق الواجب وهو يفترق عن الزكاة في أن مقدار الإنفاق لا يحدد من الشارع كما هو الحال في الزكاة.

3 ـ تُستعمل بمعنى الإنفاق التطوعي وهو تقديم المعونة المادية غير الواجبة للغير احتساباً.

4 ـ تُستعمل كلمة «الصدقة» أيضاً بمعنى تقديم الخدمات الخيرية بعامة.


ومما ورد من أحاديث في فضل الصدقة اليومية:

ما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" متفق عليه.

وجاء بلفظ آخر عند أحمد بسند صحيح: "إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ، يُجْزَى غَدًا، وَمَلَكًا بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ: اللهُمَّ أَعْطِ لمُنْفِقٍ خَلَفًا، وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا".

وجاء هذا الحديث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: اللَّهُمَّ مَنْ أَنْفَقَ فَأَعْقِبْهُ خَلَفًا، وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تلفًا"؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان.

فهذا الحديث وما في معناه، أصل في الصدقة اليومية، وأن من السنة أن يتصدق المؤمن كل يوم بشيء، كما يدل على فضل الصدقة عند الله تعالى؛ إذ سخر ملكين ينزلان من السماء كل يوم لأجل الدعاء للمنفقين، والدعاء على الممسكين، وهذا ظاهر في لفظ الحديث: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ"، وفي الحديث الآخر: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ"، فإذا كان كذلك كانت الصدقة اليومية سببًا في الحصول على دعوة الملك بالخلف، كما أن فيها اتقاءً لدعوة الملك بالتلف.


 وإن من أعظم فوائد الصدقة:

أنها لا تنقص المال، بل تكون سببا لزيادته و نمائه و بركته، يرزق الله المتصدّق و يجبره و ينصره

وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها ما يلي:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقص مالٌ مـن صدقة - أو ما نقصت صدقة من مال - وما زاد الله عبدا بعفوٍ إلا عزّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله»

قال النووي رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» : ذكروا فيه وجهين: أحدهما: معناه أنه يبارك فيه و يدفع عنه المضرّات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفيّة، و هذا مدرك بالحسّ والعادة

والثاني: أنه وإن نقصت صورته، كان في الثواب المرتّب عليه جبر لنقصه، و زيادة إلى أضعاف كثيرة


ومن فوائد الصدقة أنها دليل على صدق إيمان العبد؛ لأن البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله امتحاناً لإيمان الفرد بالله، ذلك أن المال محبوب لكل الناس، و دليل الإيمان الصادق بذل المحبوب والجود به.


عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمدلله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمدلله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نورٌ، والصدقة برهانٌ، والصـبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس ومنه سمّيت الحجة القاطعة برهانا لوضوح دلالتها على ما دلّت عليه، فكذلك الصدقة برهانٌ على صحة الإيمان، و طيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان و طعمه أهـ.

3ــ ومن فوائدها أن الناس إذا حُشروا يوم القيامة واشتدّ الكرب، فإن المتصدّقين يتفيؤون في ظلّ العرش، و قد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، و منها ما يلي:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ امرئ في ظِلّ صدقته حتى يفصل بين الناس»

أو قال: «حتى يُحكم بين الناس» قال يزيد: - راوي الحديث - و كان أبو الخير لا يُخطئه يومٌ إلاّ تصدّق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا.


الصدقة اليومية سنة نبوية، يدل عليها حديث دعاء الملك للمنفق بالخلف، وعلى الممسك بالتلف، وكثير من الناس تثقل عليهم الصدقة كلَّ يوم؛ لقلة ذات اليد، أو لكثرة الشغل، فلا يلتزمون بها، ولو علموا أن بركة دعاء الملك للمنفق بالخلف تتناوله بإنفاق أي شيء ولو كان قليلاً، زال الإشكال، ويوضح ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ رواه مسلم.

وكثير من الفقراء لن يَعجِز عن التصدق كل يوم بتمرة واحدة، وهو يكون منفقًا إذا تصدق ببعضها لا بكلها، أو بكِسرة خبزٍ، أو بلقمة طعام، أو بجرعة لبن، أو بكأس ماء.

وفقراء الصحابة رضي الله عنهم لما ندَبهم النبي عليه الصلاة والسلام للصدقة، اشتغلوا حمَّالين ليتصدقوا بشيء من أُجرتهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يربي فيهم خصلة الإنفاق اليومي، فسألهم ذات صباح عن جملة من الأعمال الصالحة، كان منها قوله عليه الصلاة والسلام: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا»؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا؛ رواه مسلم.

وللصالحين الكرماء من هذه الأمة أخبار كثيرة في الصدقة اليومية، فقد جاء عن الحسين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنه كان يتصدق كل يوم بدينار، وعن الإمام الليث بن سعد رحمه الله تعالى أنه يتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين.

ونقلوا في سيرة العلامة اللغوي المقرئ أبو حاتم السجستاني رحمه الله تعالى أنه كان يتصدق كلَّ يوم بدرهم.

ونقل أبو شامة المقدسي عن القائد صلاح الدين أنه كان يتصدق كل جمعة بمائة دينار أميري ظاهرًا، ويتصدق فيما عداه من الأيام سرًّا مع مَن يثق به، ولعل إظهاره صدقة الجمعة؛ لكي يقتدي به الأغنياء والأعيان، وكبار دولته؛ لكونه قائدًا يُقتدى به.

وكان ابن الخصيب وزيرًا لبعض خلفاء بني العباس، ثم نُكِب وعُزِل وضاق حاله، فكان قبل نكبته يتصدق كل يوم بخمسين دينارًا، فلما نُكِب بَقِي يتصدق بخمسين درهمًا، ويقلل نفقة نفسه.

وذُكر عن الوزير أبي علي الطوسي أنه كان يتصدق كل صباح بمائة دينار.

وأخبار أهل الصدقة اليومية كثيرة، وأحوالهم عجيبة، والمقصود أنهم هُدوا للعمل بهذا الحديث العظيم، وحقَّقوا دعوة الملك لهم بالخلف، وكان فيهم فقراء وأغنياء، وقادة ووزراء وأعيان، فلم يمنع الفقر فقيرهم أن يتصدق كل يوم ولو بشيء يسير، كما لم تمنع الأشغال والأعباء القادة والوزراء والأغنياء عن الالتزام بالصدقة اليومية، فلنحي هذه السُّنة العظيمة فينا؛ طاعة لله تعالى، ورغبة في ثوابه، ودخولاً في دعوة الملك للمنفق بالخلف، واتقاء لدعوته على الممسك بالتلف؛ ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].
الصدقة اليومية