فالمعروف في مفهومه العام هو ما يُستحسن من الأفعال، وإذا بُذل فهو يصدر من فاعله وينتهي إلى محله المقصود، وعليه يتضح بأن أركان صنع المعروف ثلاثة: أولها: صانع المعروف. وثانيها: محل المعروف, أي: من صُنع له المعروف. وثالثها: معروف يُصنع.
ولعل محور حديثنا ومائدة مقالنا حول الركن الثاني، وجوابٌ على سؤال يُطرح:
هل يُبذل المعروف لكل أحد ؟ هل كل من على البسيطة أهلٌ لبذل المعروف ؟
لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "الناس معادن"، ويعني بذلك اختلافهم في النفَاسة والخِسة، ولا ريب أن الناس ليسوا سواسية حال بذل المعروف لهم، فمنهم اللئيم الذي إذا أكرمته تمرد، والمعروف كالمطر إذا شربَت منه الأفاعي فإنه يعقِب سُمًّا، وقال سفيان الثوري رحمه الله: "نظرنا إلى أصل كل عداوة فوجدناها اصطناع المعروف إلى اللئام".
وقد قيل:
مَن يصنع المعروف في غير أهله ** يلاقي الَّذي لاقى مُجيرُ أمَّ عامرٍ
والعرب تُكني الضبع بأم عامر، وقد دخلت يومًا خباء شيخ من الأعراب فأتاه القوم يريدون قتلها وطلبوا منه ذلك، فقال لهم: "ما كنت لأفعل، وقد استجارت بي"، فعندما نام يومًا وثَبت عليه فقتلته، فقال قائلهم هذا البيت.
وكما يُروى عن الذئب الصغير الذي شرب من حليب شاة لأعرابية حتى كبر وقوي فأتت يومًا وقد افترسها، فأنشدت قائلة:
غذيتَ بدرها وربيتَ فينا *** فمن أنباكَ أن أباكَ ذيب ُ
إذا كان الطباع طباع سوء ٍ *** فلا أدب ٌ يفيد ولا أديب ُ
ولكن .. هل يعني ذلك أن يحرِم المرء نفسه من فضل بذل المعروف ويمنعها من تلك السعادة التي أجمع أهل الأرض أنها تلمؤ جنبي باذل المعروف ويجد أثرها في يومه وشهره وسنته ؟ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" ومن هذا الحديث قيل: (صانع المعروف إذا وقع وجدَ متكأً)، وإنه لفضل عظيم أن يجد الإنسان متكأ حين المُصاب.
وإن الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم يجده صانعًا للمعروف وباذلًا له، فهو الذي يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وقد قال: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وقال: (كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تُفرغ من دلوك في إناء أخيك)، بل حث على صنع المعروف للحيوان فقيل له: وإن لنا في البهائم لأجراً ؟!، فأجابهم: "في كل ذات كبد رطبة أجر".
ولكن مع ذلك فهو فطنٌ لا يُخدع من ذي لؤم، وصُنعه للمعروف مع احجامه عن بذله لمن ثبت له لؤمه يتمثل في موقفه صلى الله عليه وسلم مع أبي عَزَّةَ الْجُمَحِىُّ عندما أُسر في غزوة بدر فتَرَكَهُ -صلى الله عليه وسلم- لِبَنَاتِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ لاَ يُقَاتِلَهُ، فَنكث أبوعزة في ميثاقه وَقَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ يَفْلِتَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ امْنُنْ عَلَىَّ وَدَعْنِى لِبَنَاتِى وَأُعْطِيكَ عَهْدًا أَنْ لاَ أَعُودَ لِقِتَالِكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَمْسَحُ عَلَى عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ قَدْ خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنَ». فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فأي صنيع أعظم من أن تمنن على رجل وترفع عن رقبته سيفك، فلكأنما وُلد من جديد، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ولكن اللئيم لئيم، فلم يكن من رسول الله إلا أن أحجم عن بَذل المعروف ثانيةً للئيمٍ لا يعرف عهدًا ولا ميثاقًا.
ومن هنا يُرفع الإشكال ويُزاح الغطاء، فلا تضارب ولا تناقض، فالمؤمن صانعٌ للمعروف ولكن دون غفلة وسذاجة، والمؤمن كيّسٌ فطن، وقد روي عن عمر الفاروق قوله: "لست بالخب ولا الخب يخدعني"، ولقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فإياك أيها القارئ الكريم أن تبخل على نفسك والآخرين من صنع المعروف وبذله، فتلك صفة الكرام النبلاء، ولا يمنعك لئيمٌ واحدٌ أن تُحسن لكرامٍ كُثر، ولا يحملك سوء الظن في الناس أن تَظِنّ بمعروفك، بل الأصل سلامة الناس وبراؤتهم.
ومعنى حديث " صنائع المعروف تقي مصارع السوء ": "صَنائِعُ المَعْروفِ"، وهي ما اصْطَنَعتَهُ من خَيرٍ وأسْدَيتَهُ لِغَيرِكَ، "تَقي مَصارِعَ السُّوءِ"، أي: يُجازيهم اللهُ تَعالى على مَعْروفِهِم، فيُنجِّيهم من السُّقوطِ في الهَلَكاتِ، ومَواطِنِ الزَّلَلِ، "
قال العلماء: والمراد بميتة السوء أو مصارع السوء: ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ـ كالهدم والتردي والغرق والحرق، وأن يتخبطه الشيطان عند الموت، وأن يقتل في سبيل الله مدبرا. وقال بعضهم: هي موت الفجاءة. وقيل ميتة الشهرة ـ كالمصلوب.
ومثل ذلك: الحوادث والكوارث التي تشاهد اليوم في كل مكان.
والذي يقي من ذلك: هو صنائع المعروف ـ من الصدقة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وعمل الخير بصفة عامة.
وقد لخصت أمنا خديجة ـ رضي الله عنها ـ صنائع المعروف ـ التي تقي مصارع السوء ـ بقولها لنبينا صلى الله عليه وسلم: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. متفق عليه.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا وإياكم من كل ما استعاذ منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.